تشارك

تألق المعارض العربية في آرت بازل باريس ٢٠٢٤، جسر بين التاريخ والروايات المعاصرة

 

عاد آرت بازل باريس هذا العام بجلاله إلى الموقع الأيقوني قصر جراند باليه، حيث استضاف أكثر من ١٩٠ معرضًا فنيًا من جميع أنحاء العالم. ومن بين أبرز المشاركين في المعرض كانت المعارض والفنانين العرب، الذين عكسوا ارتباطًا عميقًا بتاريخ المنطقة وهويتها الثقافية الغنية، حيث جمعت أعمالهم بين التقاليد والمواضيع المعاصرة، مما جذب اهتمام الجمهور وجامعي الأعمال الفنية على حد سواء.

 

قدمت عدة معارض رئيسية من العالم العربي رؤى فريدة في آرت بازل. عرضت “أثر جاليري”، التي تمتلك مساحات في جدة والرياض والعلا، مجموعة من الفنانين السعوديين في منتصف مسيرتهم وأولئك الناشئين، حيث تناولوا القضايا الاجتماعية المتغيرة في المملكة، بما في ذلك علاقة الجيل الجديد بالدين والعالم الطبيعي. من بين هؤلاء الفنانين، تميزت منحوتات مهند شونو المصنوعة من رمال مسبك سوداء معاد تدويرها، وتركيب محمد الفرج لعظام خشبية التي بدت كأنها هيكل متحرك كفيلم فني يجذب التفكير العميق.

 

أما “لوفت جاليري”، التي تأتي من الدار البيضاء ومراكش، فقد عرضت استعراضًا مصغرًا لأعمال الفنان المغربي الحداثي الشهير محمد المليحي. شملت أعماله قطعًا مبكرة بألوان باهتة ومواد مُعاد استخدامها، أنجزها خلال فترة إقامته في روما، وصولًا إلى تجريدات نابضة بالحياة ومليئة بالألوان الزاهية التي أُكملت قبل وفاته في ٢٠٢٠. كان اختيار “لوفت” ليكون أول معرض مغربي يتم اختياره للمشاركة في آرت بازل باريس بمثابة خطوة مهمة، حيث لم يكن المليحي مجرد فنان للمعرض، بل كان صديقًا عزيزًا لأصحاب المعرض.

 

ومن بيروت، قدمت “مارفا بروجيكتس” عرضًا هادئًا وتأمليًا، جمع بين أعمال سيتا مانويكيان، وهي رسامة لبنانية تحولت لاحقًا إلى راهبة بوذية، وأعمال باولا يعقوب. تضمنت لوحات مانويكيان ذات الألوان الباستيلية مشاهد لحياة الطبيعة مثل البيض والدم، فيما قدمت يعقوب مكعبات شمعية تحتوي على صور وبطاقات لعب وأوراق، وكأنها لحظات مجمدة في الزمن. معًا، تعكس هذه الأعمال تدفق التاريخ وسكونه، مما يمثل تعليقًا على الحروب المتواصلة في لبنان.

 

كان الحاضر المؤلم للصراعات في بيروت واضحًا في هذه العروض، حيث عكست كل من “مارفا بروجيكتس” و”جاليري سفير-سملر”، وهو معرض لبناني آخر، أهمية الفن في مواجهة الأزمات السياسية والاجتماعية. “سفير-سملر”، الذي افتتح أول معرض “مكعب أبيض” في العالم العربي عام ٢٠٠٥، قدم مجموعة مبهرة من الأعمال، من بينها أعمال عارف الريس، يتو برادة، وطارق كسواني. وكان عمل كسواني المتميز عبارة عن لوحة معدنية مصقولة بشكل دقيق ومعلقة على الحائط، وهي ترمز إلى قضبان شرفة منزل جدته في القدس، مما يجسد موضوعات المنفى والخسارة.

 

لم يكن حضور المعارض العربية في آرت بازل باريس مجرد احتفال بالمواهب الإقليمية، بل كان أيضًا موقفًا يتحدى التحديات السياسية والاجتماعية المستمرة. كما قالت جومانا أصيلي من “مارفا بروجيكتس”، يواصل الفنانون في بيروت العمل برغم الظروف المستحيلة. بالنسبة لهم، الفن يوفر مساحة آمنة، وهو وسيلة للتعامل مع الفوضى وتجاوزها.

 

في النهاية، أكد آرت بازل باريس ٢٠٢٤ على الدور الحيوي للمعارض والفنانين العرب في ليس فقط الحفاظ على التراث الثقافي، بل أيضًا في تشكيل الخطاب المعاصر. قدمت أعمالهم، التي عُرضت تحت القبة الزجاجية الأيقونية في قصر جراند باليه، رؤى ذات أهمية كبيرة في الوقت المناسب، مما يوفر رؤية عميقة في تعقيدات الهوية والصراع والبحث عن الأمل. كان جمهور آرت بازل، جمهورًا متذوقًا من جامعي الأعمال الفنية والخبراء، الجمهور المثالي لتقدير هذه الروايات العميقة من العالم العربي، التي تم تقديمها بشغف وهدف.

 

وكما قالت آنا سيلر من “جاليري سفير-سملر”: “بعد التفكيك الذي يحدث الآن، سيحتاج الجيل القادم إلى شيء يبني عليه”. تقدم الأصوات الفنية في آرت بازل باريس الأساس لذلك، وهي تقدم تاريخًا وذاكرة وخيالًا يمكن من خلاله بناء مستقبل جديد.