هو الباحث والشاعر والمترجم والمبدع والأكاديمي والأستاذ الفرنسي والمستعرب الذي تبحّر في اللغة العربية، وكرّس حياته لخدمتها والدفاع عنها وأبحاثه للغوص في أعماقها وصيد جواهرها، وخاصة في ترجمة عيون الشعر العربي الكلاسيكي الذي تخصص فيه إلى لغة فولتير. منذ ولادته في ريف ميز في الجنوب الفرنسي عام 1929، يمّم وجهه صوب جنوب المتوسط، وحلم برؤية أشجار النخيل التي تتراءى له خيالاتها من وراء أفق ضفة الشمال، وتاقت روحه لمعانقة الشرق الجميل واكتشاف أسرار ثقافته وحضارته العريقة.
تعرف على لغة الضاد صدفة في أربعينيات القرن الماضي، فتبحّر فيها وصار متيّما بها ومدافعا عنها ورافعا رايتها في كل الأمصار والأفاق، حتى أصبح في الأخير سفير الحضارة العربية الإسلامية في الغرب. هو موسوعة و"مكتبة عربية متنقلة" يتواشج فيها الشرق والغرب، إنه "المستعرب الذي اعتنق الإسلام حضاريا" كما كان يقول عن نفسه.
ومنذ ترجم شعر "مجنون ليلى" قيس بن الملوح واكتشف قصته، أصبح متيّما بالشعر العربي الكلاسيكي، ومجنونا جديدا باللغة والثقافة والحضارة العربية، ومنذ نقل إلى الفرنسية عيون الأدب العربي مثل "كليلة ودمنة" و"ألف ليلة وليلة" سقط صريعا في عينيّ شهرزاد وحبها، وجرفه تيار ابن بطوطة ورحلاته العجائبية وسافر معه الى أقاصي الشرق وتاه بإرادته عن مرساه الفرنسي الأوروبي، ليستقر بكتاباته دون بوصلة ودون رجعة في الصحراء والحواضر العربية ويتلبس بالشخصيات الغرائبية في الشعر الجاهلي وقصص ابن المقفع والمعري. هذا هو المؤرخ الفرنسي اندريه ميكيل 1929- 2022 الذي رحل عن العالم الأسبوع الماضي عن عمر 93 عاما .
وبعد أن استكمل كل مراحل تعلم العربية وتعمق فيها حد نيل شهادة التبريز، أصبح ميكيل أستاذا مختصا في الحضارة العربية بالجامعات الفرنسية بداية من عام 1968، وشغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال أفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة.
وفي ظل علاقة العشق هذه، كانت نظرته للأدب العربي دائما عاطفية أفقية تلقائية تفاعلية، تبتعد عن النظرة الاستعلائية الكولونيالية للمستشرقين الأوائل، وقد كانت هذه النظرة والعلاقة التواشجية عن وعي، مما جعله يصرّح به في أحد لقاءاته قائلا "أنا مستعرب، ولست مستشرقًا.
وقد بقي ميكيل وفيا حتى آخر رمق في حياته لحبه الأول الشرق بكل سحره وألقه، الذي ولد منه عشقه الأول لغة الضاد التي كتب بها أغلب بحوثه ومؤلفاته، وكانت مجموعته الشعرية "قصائد متبادلة" التي أصدرها عام 2020 وهو في سن 91 عاما، خير دليل على علاقة العشق النادرة الفريدة هذه، حيث كتبها بلغة المتنبي أولا ثم ترجمها إلى الفرنسية. وميكيل في الحقيقة يقر، بل يفتخر بذلك، تصريحا وليس تلميحا حيث قال ذات حوار "ستبقى العربية عشيقتي التي لا يمكن أن أخونها حتى لو أردتُ أو حاولت."
ميا ريشا